ما أصعب الحديث عن ألفريد فرج! وقبل أن يتبادر إلى الذهن التساؤل حول مدى صعوبة ذلك، نجيب بأن توترا ما سينشأ إذا ما حاولت تحليل منجزات هذا الكاتب الكبير، سواء على المستوى الفني أو الإنساني أو السياسي.
فقد كان نساجا أحسن نسيجه في غالبية ما قام به، للحد الذي يجعل من محاولة الدخول إلى عالمه الخصب المحكم ضربا من التهور، لكنه تهور ممتع بقدر ما هو مفيد. فعالمه بمثابة مجموعة من الضفائر التي أحسن جدلها للحد الذي يصعب فصمها.
التكوين الفريد..
ولد ألفريد مرقس فرج في قرية "كفر الصيادين"، مركز الزقازيق عاصمة الشرقية عام 1929، ولكن نشأته الحقيقية كطفل كانت في الإسكندرية، والتي ظل بها حتى نهاية دراسته في جامعاتها، حيث تخرج في كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية عام 1949م، حيث عمل مدرسا للغة الإنجليزية بعد تخرجه حوالي ست سنوات.
واللافت أن الطريق ما بين الطفولة والجامعة تخلله عطاء مسرحي على نحو ما؛ فـ"ألفريد" ومنذ المدرسة الابتدائية وهو يمثل مع أقرانه، وكأنه يُعدُّ ويُهيَّأ لما خُلق له، وقد برز في عدد من الأدوار حتى أشاد به معلمه، وعندما انتقل إلى المدرسة الثانوية، أراد أن ينال من المجد ما ناله في المدرسة الابتدائية، ولكنه لم يظفر بمراده، وهنا تمرد على الوضع، وظهرت في شخصيته خاصية يعرفها جيدا من اقترب منه، وهي "التمرد الفني".
والشاهد هنا أن التمرد الفني كان مقاومته للوضع الذي يرفضه، فلم يقف "ألفريد" ليتشابك مع الزملاء بالأيدي، ولم يحاول إقناعهم بموهبته في التمثيل، وإنما انتزع حقه انتزاعا، بأن اقتطع من نصوص درامية عبارات تناسب شخصيته التي يلعبها، ثم أدخلها في دوره في أثناء التمثيل، وهو ما أذهل زملاءه، حيث كان خروجه منسقا للحد الذي شككهم في النسخ التي بين أيديهم، وهم لا يدرون أن ألفريد يشق طريقه إلى عالم التأليف المسرحي.
في الجامعة تخصص ألفريد في اللغة الإنجليزية وآدابها، وهناك تواصل مع وليم شكسبير، وكريستوفر مارلو، وبن جونسون، وتوماس كيد، وبرنارد شو، أوسكار وايلد، وغيرهم من كبار كتاب المسرح الإنجليزي.
ولم يقتصر إيغاله في عالمه على كتاب المسرح فحسب، بل اتسع ليدرس الشعر، وينهل من قصائد كوليردج، وردث ورث، وجون دون، وقل مثل ذلك في الرواية والقصة، في تلك المرحلة يلتهم الفتى الجامعي كل ما نالته يداه، ولم تنقطع علاقته وتواصله مع الخشبة المسرحية بل ازدادت توهجا.
وكان لثقافته الإنجليزية أكبر الأثر في متابعته للأنشطة الفنية والمسرحية والارتباط بالحركات والجماعات الأدبية والمبدعين والمثقفين. كما اقترب من عالم توفيق الحكيم ليقدم أول مسرحياته: "صوت مصر"، ثم "سقوط فرعون".
وقد كان لارتباط ألفريد بإحدى الحركات اليسارية سببا في اعتقاله لأكثر من 5 سنوات (1959- 1964)، وبعد خروجه حصل على منحة تفرغ من وزارة الثقافة، إضافة إلى قيامه بتقديم بعض من أعماله مثل: "حلاق بغداد" و"سليمان الحلبي" و"عسكر وحرامية".
ونظرا لخبرته فقد تقلد في عام 1966 بعض الوظائف من أهمها: مستشار برامج الفرق المسرحية بالثقافة الجماهيرية، ومن ثم مستشار أدبي للهيئة العامة للمسرح والموسيقى، ثم مدير للمسرح الكوميدي.
كما عمل بالجزائر من عام 1973 وحتى 1979 مستشارا لإدارة الثقافة بمدينة وهران ولإدارة الثقافة بوزارة التربية والتعليم العالي. لينتقل بعدها إلى لندن حيث أمضى سنوات عدة محررا ثقافيا في الصحف العربية فيها.
وكانت وفاته في (4 من ديسمبر 2005م) عن عمر يناهز الستة والسبعين عاما.
امتلك "العصا"
إحدى مسرحياته
البعض يضع فن كتابة المسرحية وسط سياق الآداب، ويعتبرونه بذلك عملية أدبية، وكتابة تحمل المعنى الذي ينبغي للأدب حمله، وقولا من القول الأدبي يكون بليغا بقدر تذوقك له، ورغبتك في سماعه وترداده عن بعد، غير أن البعض الآخر يرى أن هذا أبعد عن الفهم الصحيح للكتابة المسرحية التي هي بالأساس كتابة فعل، وكتابة صورة، وكتابة عرض، لا ينبغي لها إلا أن تكون حديث شخصيات حية متفجرة متصارعة، أي همس بلاغي في هذا السياق يخرج عن حدود المشاهدة، ويركز على الكلمة وسماعها واستحسانها، وهو ديوان شعري، وهو قصة ملقاة على جماعة، لكن البعض يرى أن المسرح ليس كذلك.
فهناك من يعتقد أن التوفيق بين النزعتين هو أمر ممكن، فمن الممكن أن تكون كاتبا لفعل حضور حي وحقيقي ومسرحي، وفي الوقت ذاته تكون الكلمة حاضرة وبليغة ومعبرة.
وظروف تكوين ألفريد فرج وميوله أهلته لامتلاك العصا وليس فقط مسكها من النصف، لقد كان ألفريد شاعرا له محاولات مبكرة، وقصاصا ظل ينشر قصصه حتى الستينيات، وكاتبا صحفيا وناقدا ممتلكا لأدواته في الكتابة، كل ذلك يرجحه لأن يكون كاتبا جميل القول وبليغا.
كما كان عالما بالخشبة المسرحية وقادرا على معرفة خصوصية العرض الحي، وصاحب مجسات حساسة تجعله يعلم جيدا طبيعة متلقيه وما الذي يضحكهم بالتحديد، وما الذي يبكيهم، ومتى يمكن الصعود بتوتره وإلى أي درجة ولماذا؟
العمل الفني.. جسد واحد
وجاء العمل السياسي فصقل الكاتب بالقضايا الحقيقة في آتونها الوطني المشتعل. فمرة أخرى تهيئ الظروف لألفريد فرج فرصة استثنائية بألا يكون الكاتب المنعزل المنفصل في برجه العاجي المزعوم، فوسط مناخ تحالف القوى الوطنية قبل الثورة ينضم ألفريد لخلايا اليسار، ويحمل قيمة العدالة الاجتماعية كقيمة يظل يهفو إليها ويحارب في سبيلها، ثم تأتي تجربة الاعتقال لما يزيد عن السنوات الخمس، عرفت فيها معتقلات مصر نصوصا فنية ألفتها زهرة الحركة الوطنية الملقاة في سجون الثورة المجيدة.
وهناك، أي في المعتقل، ظهرت أعمال ألفريد فرج، ولم يكن قد قدم له قبل الاعتقال غير "سقوط فرعون" 1957، ومنذ اللحظة الأولى تذكر هذا الكاتب درسا تعلمه صغيرا أنه إن قبل الدنية فلن ينال سواها.
ندع ضفيرة قابلية العرض الحي وأدبية الكلمات، نجد ضفيرة أخرى من الاعتزاز بالذات لحد التيه والقبول بالآخر لحد التواضع.
الذات.. وحداثة الآخر
نجد حضور الذات الجمعية لدى ألفريد فرج حضورا آسرا، طاغيا، مباهيا، وفرحا بنفسه، مزهوا، فهذا هو تراث ألفريد فرج العربي الشرقي يظهر كما لا يظهر في أعمال مسرحي معاصر آخر، "ألف ليلة وليلة" يستلهمها ألفريد في أعماله "حلاق بغداد"، "علي جناح التبريزي وتابعه قفة"، "رسائل قاضي أشبيلية"، و"الأميرة والصعلوك"، و"بق بق الكسلان"، فإذا ما أضفنا السير مثل "الزير سالم"، والتاريخ مثل "سليمان الحلبي"، لوجدنا أنفسنا في مواجهة مبدئية مع محب لهذا التراث، لكن مواجهة أكثر عمقا مع قراءة هذه الأعمال.
وهنا سنكشف عن غواص في أعماق هذا التراث وعاشق له، ومستخرج منه لآلئ لم يكن لغيره استخراجها، لماذا؟!
لأنه لا يقف عند حدود استحضار التراث فحسب، بل هو يصنعه على نحو ما، إنه لا يضع يده في المادة التراثية، بل يضع يده في الخميرة التراثية ذاتها، ينفتح على جوهر وعمق تكوين هذا التراث.
وألفريد فرج يستخرج من تراثنا بمعاوله مهرجين خفاف الظل، ويمتعك بضفيرة من الجنون والحكمة، تجدها لدى "أبو الفضول" في "حلاق بغداد"، ولدى "علي جناح" في "علي جناح التبريزي وتابعه قفة"، فقد كان الرجل متمكنا من التراث، ومتمكنا في ذات الوقت من المسرح الغربي وآلياته وأدواته.
استحضار للمنجزات العالمية
ألفريد فرج شابا
وتصدى ألفريد لرافضي المنجز الغربي عبر تقديمه المنجزات التقنية الدرامية لأعلام القرن العشرين بروتولد برخت، لويجي براندللو، فريدريش دورنيمات، بيتر فايس لتجدهم حاضرين في أعماله.
ويحار المرء في عرض مثال لاستحضار ألفريد لمنجزات هؤلاء ودون أدنى تماه بل إنه يستحضرهم وكدت أقول يحضرهم فيستضيفهم في بيته، نقف عند مثال بيتر فايس:
يعرف "بيتر فايس" كواحد من مؤسسي ما يعرف بالمسرح التسجيلي، وهو مسرح يقوم على وقائع تاريخية حقيقية واقعية، يستحضرها الكاتب كما هي، وللقارئ هنا التساؤل: وأين الفن في هذا؟
ويرى "ألفريد" أن الفن في الاختيار حيث يقول: إن الواقع متشابك للحد الذي ينبغي عليك كفنان الدخول في حومة اختيارات، تعكس رؤيتك، والفن في جوهره اختيار، أنت تختار من هذا العابر اليومي، ما تريد أن تعممه، أو تصل به للقانون، يمد الفنان يده في تيار الخاص ليستخرج منه العام والجمعي والقيم.
فالمسرح التسجيلي، هو مسرح سياسي يعرض لجمهور ساخن وقائع تمسهم، وهي تكاد تكون وقائع مجردة، هي وقائع وقرائن مؤكدة بفعل وثائق إعلامية، شرائط، وإحصاءات، وجرائد، وصور حقيقة، واعترافات، وغيرها، المهم أن العرض بانوراما سياسية تعبوية، والخيط المشدود الواجب على المبدع مراعاته رغم كل هذه المعلومات المباشرة، ألا يسقط في فخ المباشرة المجانية، أو الخطابية الزاعقة غير الفنية؛ لأننا أولا وأخيرا أمام عمل فني.
وحين تصدى ألفريد للمسرح التسجيلي قام بمعالجة القضية الفلسطينية كإحدى أهم القضايا التي تناولها، فقد أخذ من الآخر ما يشحذ به هممنا، وبماذا؟! بما أبدعه هذا الآخر، في أكثر نتاجه تعبوية وشحنا.
فحين تصدى ألفريد للقضية الفلسطينية استحضر المسرح التسجيلي معه، ولك أن تتساءل هل كان الضمير الفني هو الطاغي، أم الضمير القومي؟.
عايش ألفريد حياة الفدائي الفلسطيني من خلال عدة شهور قضاها في معسكر للفدائيين، وقبض على جوهر لا يمكن لأي منهم القبض عليه ببساطة، وخرج ليكون لسان حالهم إلى العالم، مخاطبا العالم باللغة التي يفهمها، وأخرج بعدها رائعته "الزيتون والنار"، فأفرد خصوصية لعلاقة الفدائي بالأرض؛ فالفدائي يمر متسللا إلى الخط الأخضر، ليفجر قطعة من الأرض، يفجرها وهو يشتاق إليها ويحارب من أجلها، رغم أنه يموت عليها أو بعيدا عنها، فكان الرجل رائعا في حله لإشكالية العلاقة بين الفدائي والأرض.
ضفيرة اللعب بالجد
ضفيرة أخرى تميز خصوصية ألفريد وهي تناوله للأمور بمزيج من الجدية واللعب المدهشين، فبداخله وفي أعماقه تكمن شقاوة تذكرك بالفيلسوف نيتشه الذي يصرح في أكثر من موضع بأنه لا يستطيع أن يؤدي مهمات حقيقية إلا عبر شيء من اللعب.
ألفريد فرج رغم ما أحاط نفسه به دائما من جدية كان في أعماقه مهرجا وساخرا لحد بعيد، وفي الوقت الذي كنت تراه فيه مبتسما تلمح خلف ابتسامته بالفعل ظلال حزن.
أذكر أنني قابلته في الذكرى الألفية "لأبي حيان التوحيدي"، وكان لقاء حاشدا ضم كثيرين من رجال الفكر في الوطن العربي، ورأيت كيف أن الرجل جاء مستمعا، بسنواته السبعين وقتها، وجلس ليستمع ويهز رأسه، يهز رأسه بتفهم.
كان ألفريد محاطا بالأنظار، وفي أثناء خروجه المتعجل لم ينتبه لباب شفاف، فارتطم به، ثم ضحك لارتطامه به، رغم قلق الجميع، فإنه هز رأسه بألا يهم، تقدم منه أحد الشباب ليحدثه عن حبه لكتابة المسرح وخاصة للأطفال، فأسرع الكاتب الكبير للانهماك في دردشة مع الشاب، ناسيا أمر الاحتفالية وما فيها، وفي المحادثة كانت أفكاره عميقة وواضحة ومحددة بشكل واضح.
أذكر مما قاله حينها: "مسرح الطفل يمر بأزمة، المشكلة أنهم يتعاملون مع الطفل في مصر، على أنه رجل صغير، هذا خطأ كبير، الطفل ليس رجلا بمقاس صغير، الطفل عالم مكتمل يجب فهمه للتعامل معه".
وظل يتحدث ويتحدث، وظللت أقارن بين منطق الدولة في التعامل مع مسرح الطفل باعتباره مسرح "عيال"، وأنظر لمن يخوض في أخطر الأمور ببساطة ووضوح وتلقائية وأريحية وخفة ظل، مزيج يحملك دائما في مواجهته على الفهم مستمتعا، ليتحقق لك بذلك شرط الفرجة الجيدة بمزج المتعة ب