هل نقرأ التاريخ .. ما بين الفرنجة... والفرنجة الجُدد؟!
بقلم / عبد الوهاب زيتون
حروب الفرنجة وقد امتدت زهاء قرنين، بدءاً من العام 1097م (الموافق عام 490هـ) عند أسوار أنطاكية في سورية، وحتى عام 1293م باندحار الفرنجة تماماً من فلسطين وسورية بعد سقوط عكا آخر معاقلهم على يد السلطان الأشرف خليل قلاوون.
وبين حروب الفرنجة تلك (التي أطلق عليها الغرب اسم" الحروب الصليبية").. وحروب الفرنجة [الجُدد] التي ما تزال تسيل منها الدماء غزيرة على أرضنا، أوجه متشابهات مع فارق الزمن:
1 ـ حروب الفرنجة: تلك جاءت من أوربة بغرض الاستيلاء على المشرق العربي.. وحروب الفرنجة الجُدد يقودها اليوم أمراء حرب من نفس المكان ، وإلى نفس المكان في الشرق.. والأمريكيون من الفرنجة، [الجُدد] هم أحفاد أولئك، ولأغراضٍ دنيئة مماثلة.
2 ـ في هذه وتلك ألبسوا حروبهم لبوساً دينياً، غطاءً للنهب والسيطرة والاغتصاب.. فالبابا أوربان الثاني في مجمع كلير مونت بفرنسا كان قد أطلقها حرباً دينية وألبسها لبوس الصليب ، وشارة الصليب يوم 15 تشرين الثاني لعام 1095م في خطبته بقوله: ".. اتحدوا، ولتكن رماحكم وسيوفكم صوب أعدائكم الكفرة المسلمين الذين اغتصبوا ديار السيد المسيح في فلسطين". (1)
ولا يختلف الغطاء في غرس الكيان الصهيوني في فلسطين عام 1948م كامتداد لـ"مملكة بيت المقدس بالادعاء بـ[الحق الإلهي التوراتي في أرض الميعاد].. ثم بالادعاء الأمريكي في الحروب التي تخوضها أمريكا اليوم لحساب هذا الكيان بالحرب على [الإرهاب].. بعد أن جعلت من [الإرهاب] مرادفاً للإسلام أو ركناً من أركانه.. مع الحرص الشديد على استحضار [العناية الإلهية] على كل الحروب القذرة التي تقودها الإدارة الأمريكية عبر ألفاظ وتراكيب لغوية مثل "قوى الخير في مواجهة معسكر الشر، الحرب المقدسة، الحرب على الطغيان، محور الشر.." ونحوها.
فأثناء الاجتياح الصهيوني للبنان في حزيران العام 1982م قدم الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريغان نفسه نائباً للسيد المسيح عليه السلام، وأنه جاء مبشِّراً بعودته، وأنه قد رأى في حروب إسرائيل التوسعية تحقيقاً لنبوءات التوراة .. والرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون سبق له وأعلن في خطاب له بالكونجرس الأمريكي عام 1994م بأنه يعمل بتكليف إلهي لحماية إسرائيل.
والرئيس الأمريكي جورج بوش الأب أطلق على خطة الهجوم البري في حرب الخليج الأولى عام 1991م الرمز الكودي بـ[المجد للقديسة مريم].
والرئيس جورج W بوش أعلنها صراحة إثر الحادي عشر من أيلول لعام 2001 م بقوله: "إننا نخوضها حرباً صليبية مقدسة"، ثم تراجع عنها بقوله: إنها زلَّة لسان!..
بل إن أحد ضباط الجيش الأمريكي من التبعية اليهودية قد قالها عند مرقد الإمام علي كرم الله وجهه: "ها نحن قد عدنا إليك من خيبر يا علي!"، معيداً إلى الذاكرة ما قاله الجنرال غورو بدمشق أمام ضريح صلاح الدين يوم 24/7/1920م، وما قال مثله الجنرال اللنبي في القدس يوم التاسع من كانون أول لعام 1917م:"الآن انتهت الحروب الصليبية يا صلاح الدين ".
3 ـ - كافة حروب الفرنجة تلك جاءت من أجل قيام مملكة بيت المقدس، ثم من أجل حمايتها والإبقاء عليها كرأس جسر أوربي متقدم لاحتلال الشرق والهيمنة عليه .. ولسان حال الفرنجة الجُدد في كافة حروبهم التي لم تنته بعد من أجل صنع [إسرائيل ] ، ثم من أجل المحافظة على هذا الكيان، وإطالة أمده كرأس جسر متقدم للنهب والسيطرة أيضاً.. وهو ما أفصح عنه صراحة الرئيس الأمريكي جورج W بوش يوم الثلاثاء في 21/3/2006 م على الملأ في خطاب متلفز بقوله: " سأستخدم القوة وأعلن الحرب على إيران، إذا كان ذلك لازماً لحماية إسرائيل " .
4 ـ لقد دأب قادة الفرنجة أولئك على توظيف الخلافات والنزاعات بين حكام وأمراء المنطقة في حسابهم، وقد أوقدوا الفتنة وأججوها بينهم بشكل كانت تبدو فيه حملات الفرنجة في معظمها مرغوبة، بل ومطلوبة من الحكام المتخاصمين للاستنجاد بالفرنجة على بعضهم البعض..
فعندما حاصر الفرنجة أسوار أنطاكية في حملتهم الأولى عام 1097م تمَّ تحييد كلا الشقيقين رضوان بن تتش حاكم حلب، ودقَّاق بن تتش حاكم دمشق دون أن يهب أحدٌ منهم لنجدة أنطاكية بسبب انشغالهما في خصومة ونزاع على السلطة ، وكأنهم في مأمن من الفرنجة.
والوزير شاور في مصر استنجد على خصمه ضرغام لدى الخليفة الفاطمي العاضد بعموري الأول حاكم مملكة بيت المقدس عام 1166م، ثم أبرم معه اتفاقية حماية، لحماية مصر من جيوش نور الدين الزنكي في الشام..
والكامل الذي خلف والده العادل في مصر، استنجد (2) بإمبراطور ألمانيا فريدريك الثاني على رأس حملة عرفت بالحملة السادسة عام 1228م، على أخيه عيسى بدمشق ، وأدَّت الحملة إلى قيام الكامل بتسليم القدس التي سبق وحررها عمه صلاح الدين الأيوبي عام 1187م إثر حطين؛ بتسليمها إلى فريدريك الثاني دون قتال باتفاقية خيانة وحماية!.
ومثل ذلك يتكرر بتمامه بين حكام وزعماء المنطقة العربية اليوم الذين يجدون في الفرنجة الجُدد حامياً، وفي شقيقهم العربي عادياً... بشكل تظهر فيه قوات الاحتلال الغازية الأمريكية البريطانية أو المتعددة الجنسيات وكأنها هبت [لدوافع إنسانية ] ، أو من أجل الوفاء بالتزاماتها الدولية لنجدة هذا البلد أو ذاك أو لتحرير هذا البلد أو ذاك.. وأنها قوات [تحرير] يتوجب [حسن استضافتها].. بل [وعدم مغادرتها]، بل والإتيان بمثلها على بلد آخر لحمايته من بلد آخر!..
وهذا هو ما عناه النائب البريطاني جورج غالاوي في مجلس العموم عندما صرخ قائلاً يوم إعلان الحرب على العراق (20/3/2003): "إنها حملة صليبية جديدة يقودها جورج W بوش الكذَّاب على العراق.. وريتشارد قلب الأسد قاد الحروب الصليبية السابقة من بريطانيا، أما طوني بلير الكذَّاب فقد ارتضى لبريطانيا اليوم دور الذنب والذئب فيها".
5 ـ لقد تحالف الفرنجة أولئك مع بعضهم البعض في حملات مشتركة ضمَّت ملوكاً ومحاربين من كافة شعوب أوربة في مواجهة أسلافنا وأجدادنا؛ وتحالفوا مع غيرهم علينا.. تحالفت بيزنطة مع مملكة الخزر اليهوديةعام 730م في مواجهة الدولة الأموية.. وتحالف الفرنجة مع المغول بقيادة هولاكو الذي زوَّجوه بأميرة منهم فاجتاح بغداد عام 1258م...(3)والفرنجة [الجُدد] يعاودون سيرة أسلافهم الأولى..
فقد تحالفت كل من بريطانيا وفرنسا والنمسا وروسيا القيصرية في مواجهة محمد علي باشا عام 1830م ثم مرة أخرى عام 1840م في مؤتمر لندن خشية قيام دولة عربية قوية في الشرق تهدد أطماعهم؛ ثم تحالفوا في اتفاقية سايكس بيكو لعام 1916م، لتقسيم الوطن العربي إلى مناطق نفوذ .. ثم تحالفوا في العدوان الثلاثي على بور سعيد في مصر لعام 1956م...
ثم في حرب الخليج على العراق لعام 1991م.. ثم في اجتياح العراق ربيع العام 2003م تحت مظلة [التحالف الدولي، أو القوات المتعددة الجنسيات].. وأحلافهم في حروبهم التي لم تنته بعد..
6 ـ لقد كانت الهمجية وأعمال القمع والإبادة الوحشية واقتلاع الأشجار وحرق المكتبات والمدن... أساليب مميزة لدى الفرنجة والمغول.. وما قام به هولاكو في بغداد يقوم باستكماله بأساليب أكثر رعباً المستر جورج W بوش [قدِّيس] الفرنجة الجُدد.. مع اعتماد سياسة [الردع] والإذلال لدى هؤلاء وأولئك .. فالقديس رينالد الذي عُرفَ بـ[أرناط شاتيون] كان يُغرق قوافل الحجيج بالدماء وهو يقول لهم: "فليأتِ محمدكم ليخلصكم!". واليوم يعلنها المستر جورج W بوش.. [شاتيون] الفرنجة الجُدد بمناسبة وبدون مناسبة على الملأ والعالم بقوله: "إنني الرئيس الأمريكي في زمن الحرب، وأن دولاً أخرى بعد العراق قد تمَّ وضعها على جدول الأجندة الأمريكية.. وأن حروب الحرية على الطغيان قد بدأت ، ولن يستطيع أحدٌ إيقافها" ومثل ذلك كثير.
لقد بطش ريتشارد قلب الأسد بثلاثة آلاف من حامية عكا يوم 12/7/1191م بعد أن ضمن لهم حياتهم مقابل استسلامهم باتفاقية مع صلاح الدين.. ومثل ذلك بتمامه قام به نابليون مع ثلاثة آلاف من حامية عكا يوم 2/2/1799م!
7 ـ لقد دأب الفرنجة طيلة حروبهم تلك على فرض الحصارات والحظر والحرمان على العرب والمسلمين، عبر استصدار مراسيم بابوية من روما تعاقب كلَّ " من يتعامل مع المسلمين أو يبيعهم حديداً أو خشباً أو سلاحاً أو يعمل لديهم مرشداً أو ملاَّحاً على سفينته" (4).. بالإضافة إلى قرارات الحرمان من الجنَّةَ.. واليوم يقوم الفرنجة [ الجُدد] عبر الكونجرس الأمريكي، ومجلس الأمن بنفس دور بابوية روما تلك.. والفرنجة [ الجُدد] يفرضون على العرب من قرارات جائرة عن [مجلس الأمن] وضمن الفصل السابع من الميثاق – أي قابلية للتنفيذ الفوري وباستخدام القوة والعقوبات –بإحكام الحصارات، والحظر، والتجويع والحرمان..
تحت مظلة[الحرب على الإرهاب] ومنع انتشار [الأسلحة النووية..] مثل القرارات رقم /731/ ثم /748/ لعام 1992م بشأن العقوبات على ليبيا في قضية [لوكربي]، والقرار السيء الصيت /1441/ لعام 2002م بشأن العراق.. ثم اجتياحه، وليس آخراً القرارات /1559/ و/1595/ ثم /1636/ و/1644/ ثم القرار /1680/ يوم 17/5/2006 م بشأن سورية ولبنان..
وتحت القرار /1373/ لعام 2001م بشأن [تجفيف مصادر الإرهاب] يتم تجويع وحصار الشعب الفلسطيني ومحاولة كسر مقاومته.
8 ـ لقد شكلت التجزئة والضعف والتفكك الداخلي، وانتشار الفساد بعد أن شاخت الخلافة العباسية في بغداد؛ والخلافة الفاطمية في القاهرة.. شكلت الفرصة السانحة التي هيأت لحملات الفرنجة تلك..
والفرنجة [الجُدد] قد وجدوا لدى العرب وحكامهم في العصر الحديث [ منجماً]، بل [مناجم](5) من الشروط والبيئة الخصبة لمؤامراتهم وحروبهم، وهم يتقنون كيف يتسللون من مساربها إلى مآربهم بخبث ومهارة.. وقديماً قالوا: ما من أمةٍ هُزِمت من الخارج.. بل كل الهزيمة تبدأ من الداخل!..
9 ـ ما كان للعرب أن يهزموا الفرنجة أولئك، ومعهم المغول والتتار في أكثر من موقع وملحمة بدءاً من سقوط إمارة الرها في إنطاكية عام 1144م على يد القائد الشهيد عماد الدين الزنكي.. إلى حطين يوم 4/7/1187 على يد صلاح الدين.. إلى عين جالوت لفارسها السلطان قطز في آذار لعام 1260م.. إلى دحر الفرنجة أولئك تماماً من آخر جيوبهم ومعاقلهم في المشرق الإسلامي على يد السلطان الأشرف خليل قلاوون عام 1293م.. إلاَّ بعد إعادة بناء البيت العربي، بناء الدولة من الداخل، ومد جسور الوحدة بين الأشقاء في مواجهة الخصوم والأعداء..
فصلاح الدين حقق الإنجاز العظيم في حطين بعد أن بنى صرح دولة قوية امتدت من العراق شرقاً إلى مشارف تونس غرباً إلى السودان ومنابع النيل جنوباً مع اليمن وشبه الجزيرة العربية..
وما كان لحرب تشرين المجيدة لعام 1973م أولى انتصارات العرب في العصر الحديث أن تحدث إلاَّ بفعل العمل العربي المشترك والتضامن العربي.. الذي فقدناه بعدها مباشرة.
وقديماً قالوا: الحكيم من اتعظ بغيره، والأحمق من أصبح موعظةً لغيره.. فلنتعظ وليتعظوا من التاريخ وعبره!..
المصدر : جريدة الاسبوع الادبي العدد 1043 تاريخ 17/2/2007 بسوريا