من غير قصد، تحولت قصة فتاة القطيف من قضية جنائية تنظرها محكمة في إحدى المحافظات السعودية إلى قضية ذات اهتمام إعلامي وسياسي عالمي ومحلي، لتنضم بذلك إلى سجل القضايا المثيرة ذات الرأي العام. لقد أفرزت هذه القضية الجنائية قضايا عدة، وأثارت زوبعة من التساؤلات حول القضاء والمؤسسة القضائية في السعودية، وأظهرت إلى السطح جملة من المسائل التي تستدعي التأمل والمراجعة وإعادة النظر. إلا أن المؤسف في الأمر، أن تتحول هذه الواقعة القضائية من فرصة للدراسة الموضوعية الجادة للعديد من المسائل القضائية التي كشفت عنها القضية إلى احتراف فكري وتراشق إعلامي عبر وسائل الإعلام. من المؤسف حقاً، أن يتحول المدافع عن الضحية والباحث عن الإنصاف والمتطوع لأجل إحقاق الحق وفق رؤيته واجتهاده وحقوقه المكفولة له شرعاً ونظاماً أن يتحول بأقوال مجردة إلى مشروع هدم لمبادئ القضاء الشرعي، ومتهم بالخيانة لوطنه وأمته، وصاحب أجندة خاصة، ومتآمر مع ثلة متربصة بهذا البلد تتوارى وراءه، وتختبئ خلف أكمة متوهمة يراها المتشبعون بفكر المؤامرة والغارقون في أوهام الحروب المتخيلة. ومما يزيد الأمر سوءاً أن يتم تمرير هذه التهم الخطرة باسم الدفاع عن القضاء الشرعي، وتحت شعار الانتصار للشريعة، في حين أن الأمر من جهة المحامي لم يكن سوى أكثر من سعي لإحقاق الحق وفقاً لقواعد الشريعة ومبادئ القضاء الإسلامي العادل. ليس المراد من سطور هذه المقالة تكييف وقائع القضية، ولا تفنيد حججها، ولا بيان المخطئ من المصيب مع أهمية العناية بهذا الأمر من المختصين من القضاة والمحامين، بل المهم هو بيان الإشكاليات المنهجية التي برزت أثناء التعاطي الإعلامي مع هذه القضية من بعض المنتمين للمؤسسة القضائية والغيورين عليها. بيت القصيد يكمن في داء الحساسية المفرطة التي تعاني منها المؤسسة القضائية والعديد من أعضائها تجاه أي نقد داخلي أو خارجي، سواء كان النقد منصباً على المؤسسة كجهاز حكومي أو على بعض الممارسات من القضاة، تلك الحساسية التي نحت بقضية فتاة القطيف منحى تبريرياً خالصاً من بعض أفراد المؤسسة القضائية والمنتصرين لها عبر وسائل الإعلام مع التجاوز للحدود الموضوعية والإنصاف عند إلقاء التهم جزافاً تصريحاً وتعريضاً في حق محامي الفتاة وكأنها قضية شخصية في مواجهته. ومما يؤكد وجود إشكالية التخوف من النقد وعدم تقبله حتى لو كان موضوعياً ومتوافقاً مع مقتضيات النظام والمنطق، الأسلوب الدفاعي الذي تتخذه المؤسسة القضائية أو الذائدين عنها أمام أي مظهر من مظاهر النقد، في تحريضات عدة ومحاضرات مختلفة وفي العديد من المؤتمرات والملتقيات التي تخص القضاء وشؤونه في المملكة، فعندما يثار الحديث حول المشكلات التي تعانيها المؤسسة القضائية أو ما يعانيه المتعاملون معها من المتخاصمين والمراجعين كبطء إجراءات التقاضي، وطول أمد القضايا، ومشكلات تبليغ الخصوم، وعدم الانضباط والتقيد بالوقت، والمعاملة الجافة من بعض القضاة، والتفاوت في الأحكام الجزائية للوقائع المتماثلة، والتجاوز لبعض النصوص النظامية، وإشكاليات تنفيذ الأحكام وغيرها من المسائل العديدة التي تمثل شكاوى دائمة للمتعاملين مع المؤسسة القضائية والمهتمين بشؤون القضاء، فإن صوت المؤسسة القضائية أو المتطوعين للدفاع عنها غالباً ما يكون أمام هذه المسائل هو صوت التبرير للأخطاء والمدافعة عن القضاء والقضاة والإلقاء باللائمة على جهات خارجية أو على الخصوم أنفسهم، وأحياناً باتهام الناقدين بأن لهم أهدافاً ونيات سيئة كالطعن في القضاء الإسلامي وتشويه سمعته كما حدث في قضية فتاة القطيف. والذي يظهر أن هذا الأسلوب التبريري ينطلق من منطلق الغيرة والحرص على مقام القضاء الشرعي، والتخوف من زحزحة بعض القواعد والأحكام الشرعية وإحلال أحكام غير شرعية مكانها، وهنا تكمن الخطورة فمن منطلق قاعدة سد الذريعة والمبالغة في التحوط من انتقاص مقام القضاء الشرعي يتم التعامل مع قضية النقد التي يعد أحد عوامل التصحيح والتطوير في بناء المؤسسات والأجهزة الحكومية وغير الحكومية يتم التعامل مع هذا الأمر بطريقة مجحفة ويتم النظر له كمعول هدم وتخريب لا كأداة تصحيح تطوير. إن ما يجب فهمه والتأكيد عليه ان العديد من صور النقد والمطالب التصحيحية التي توجه للمؤسسة القضائية، كالمطالبة بتدوين الفقه وصياغة الأنظمة والمدونات المتكاملة للأحكام المدنية والجنائية، والمطالبة بالمزيد من الشفافية في إجراءات التقاضي، والأخذ من التجارب المتطورة لأنظمة القضاء في البلاد الأخرى، والمناداة بتحديث المؤسسات التعليمية المعنية بتخريج القضاة وتجديد مناهجها هي مطالب لا تهدف إلا إلى إرساء مبادئ العدالة وتحقيق مقاصدها بشكل أكثر إحكاماً وأقل تعقيداً وفقاً لما تم الوصول إليه من أنظمة ووسائل متطورة، وفي ضوء أحكام الشريعة الإسلامية ومن دون المساس بقواعدها الكلية ومن غير مخالفة شيء منها. كما ان ما يجب فهمه أيضاً ان التصرفات والممارسات التي تصدر من القضاة أثناء المرافعات وخلال إجراءات التقاضي لا تعدو ان تكون أعمالاً بشرية قد يعتريها الخطأ والنقص، الذي قد يكون في بعض الأحيان متعمد ولأغراض لا علاقة لها بتحقيق العدالة، وبالتالي فإن الدفاع عن هذه الممارسات ومحاولة تبريرها يتناقض بشكل كامل مع مقتضيات العدالة ومقاصد القضاء. إن من أهم أسباب هذه المشكلة هو الخلط بين الممارسة القضائية البشرية من جانب وقواعد الشريعة وأحكامها من جانب آخر، وإضفاء الصفة الدينية على عمل القاضي وصبغ ما يقوم به من أعمال وإجراءات بصبغة تعبدية، الأمر الذي يؤدي إلى النظر إلى العديد من الممارسات النقدية وكأنها انتقاص لمبادئ وأحكام شرعية، في حين ان الإطار الطبيعي الذي يجب ان توضع فيه وظيفة القضاء أنها وظيفة مدنية ذات مقام رفيع، وان المفترض في المنتمين إليها من القضاة أنهم أشخاص على قدر رفيع أيضاً من الكفاءة والتأهيل والفهم والعلم والأمانة، وأن الاحترام والتقدير الذي يستحقه مقام هذه الوظيفة هو أمر مشروع وسائغ إلا أنه لا يصل إلا درجة التقديس، وان مرتبة الاحترام والمهابة يجب ان يكون مردها إلى خطورة هذه الوظيفة وصعوبتها لكونها تهدف إلى اتخاذ القرارات الجازمة والقطعية في حق رقاب الناس ودمائهم وأعراضهم وحقوقهم المالية، فمسألة الاحترام والهيبة إذاً يجب ان تكون مرتبطة بما يجب ان يكون عليه القاضي من مواصفات رفيعة وعالية في علمه وكفاءته وأمانته. إن هذه المقولة المتواضعة التي قد يشوبها الخطأ بوصفها قولاً بشرياً تهدف إلى رد الاعتبار لمقام النقد والنظر إليه كعامل أساسي من عوامل التصحيح والمراجعة والتطوير، سواء أكان هذا النقد من داخل المؤسسة القضائية أم من خارجها، وسواء صدر من متخصصين في شؤون القضاء والعدالة أو من غيرهم، وسواء اتسم بالحدة والقسوة أو بالرفق واللين، إذ التفاعل مع الآراء ووجهات النظر المخالفة والتعاطي معها بشكل إيجابي واحترام أصحابها وقولهم هو عين العدالة، وهو مطلب شرعي نبيل والتزام تفرضه مقتضيات المسؤولية الوطنية.