كن في الدنيا كأنك غريب..
د. يوسف القرضاوي
روى البخاري في صحيحه، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "كُن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل". وكان ابن عمر يقول: إذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وخُذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك [1].
لا خلود في الدنيا
إن مشكلة الناس أنهم يحيَون في الدنيا بعقلية الخالدين، يظنون أن الحياة لهم دائمة، فإن لم تكن دائمة، فهم يحسبون أن الموت عنهم بعيد، ودواء هذا كله، أن يُقصِّر الناس من آمالهم، وأن يعيشوا على ذكر من الآخرة، وأن يجعلوا الآخرة نُصب أعينهم. ومن أجل هذا، يوصي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابن عمر بقوله: "كُن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل".
فإن من الخطر أن يتخذ الإنسان الدنيا دار إقامة، ويتخذها وطنًا دائمًا، ويحسب أن لا رحيل له عنها، أو هكذا يُفكِّر... وهكذا يُعامل نفسه... وهكذا يُعامل الناس.
إن عليه أن يعرف أن الدنيا دار ممر، لا دار مقر، كما قال العبد المؤمن الصالح، مؤمن آل فرعون... وهو يدعو قومه إلى الله، ويقول لهم: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر:38،39].
الحياة الدنيا هي متاع؛ بل متاع قليل، بل هي متاع الغرور... والآخرة هي دار القرار، دار الإقامة... دار الخلود.
فليكن الإنسان في الدنيا على إحدى هاتين الحالتين: حال الغريب، أو حال عابر سبيل.
الغريب الذي يُقيم في أرض وهو يعلم أنها ليست أرضه، ويُقيم في بلد، وهو يعلم أنها ليست وطنه، فهو دائم الحنين إلى وطنه، دائم الحنين إلى أرضه، إلى مسقط رأسه، ومهد طفولته، ومهوى فؤاده، حيث يجتمع شمله بأحبائه وأصحابه... فهذا هو شأن المؤمن.
فوطن المؤمن ليس هو الدنيا، إنما هو الجنة...
فإن الله حينما خلق آدم، أسكنه وزوجته الجنة، ثم أهبطه منها، ووعده وذريته من الصالحين بالرجوع إلى المسكن الأول... إلى الجنة. ولهذا فإن المؤمن يحنُّ إلى الوطن الأول:
كم من منزل في الأرض يألفه الفتى******وحنينه أبدا لأول منزل
كم من منزل في الأرض يألفه الفتى****** وحـنــيــنــه أبـــــــدا لأول iiمـــنــــزل
يحنُّ إلى الجنة، التي كان فيها أبوه، ورضي الله عن ابن القيم إذ يقول في ميميته:
فحيِّ على جنات عدنٍ فإنها*******منازلنا الأولى وفيها المخيَّمُ
ولكننا سَبِيُ العدو فهل ترى******نعود إلى أوطاننا ونسلـم؟
فحيِّ على جنات عدنٍ فإنها***** منازلنا الأولى وفيها المخيَّـمُ
ولكننا سَبِيُ العدو فهل ترى***** نعود إلـى أوطاننـا iiونسلـم؟
نحن قد سبانا الشيطان، وأصبحنا أسرى له، فهل ترى نُفكُّ من إساره؟ وهل ترى نخرج من داره؟ وهل ترى نعود إلى دارنا ووطننا الأول... الجنة؟
الحالة الثانية التي يرشد إليها الحديث
أن تعتبر نفسك غير مُقيم قط، وإنما أنت مسافر أبدًا، تقطع مرحلة وراء مرحلة، ومنزلة عقِب منزلة، حتى تذهب إلى مقصدك وإلى مأواك، وإلى دار مقامتك.
وهكذا نحن -أيها المسلمون- نحن مسافرون.. وراحلتنا الليل والنهار... مركبنا الليل والنهار... اللذان يُبليان كل جديد، ويُقربان كل بعيد، وطالما أهلكا القرون من قبلنا، {قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} [إبراهيم: 9]، ومع هذا، مع أن الليل والنهار يعملان في هدم الحياة، ونقص الأعمار، وتقريب الآجال، لم يزالا جديدين...
الليل يُسلمنا إلى النهار، والنهار يُسلمنا إلى الليل، ونحن بينهما على سفر، وكلاهما يُفضي بنا إلى الآخرة... ومَن كان الليل والنهار مطيَّته فهو يُسار بهم وإن لم يَسِر، وهو سائر إلى الموت لا محالة.
سأل الفُضَيْل بن عياض رجلاً: كم عمرك؟ فقال له: ستون سنة. قال له: إذن فأنت منذ ستين عامًا وأنت تسير إلى ربك فيوشك أن تبلغ. فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون. فقال له الفضيل: أتدري معنى ما تقول؟ مَن علم أنه لله عبد، وأنه إليه راجع، فليعلم أنه بين يدي الله موقوف، ومَن علم أنه موقوف، فليعلم أنه مسئول، ومَن علم أنه مسئول، فليُعد للسؤال جوابًا.
فقال الرجل: وما النجاة؟ وما الحيلة؟
فقال الفضيل: أن تُحسن فيما بقيَ، يُغفر لك ما مضى، وإن لم تُحسن فيما بقىَ، أُخذت بما مضى وبما بقيَ [2].
كلنا مسافرون... ننتظر قطار الموت، ننتظر هذا المركب، ليوصلنا إلى الله، إن اليوم أو غدًا أو بعد غد.
كل يوم ينقضي من حياتنا، إنما هو جزء من عمرنا، يذهب وينطوي.
إنا لنفرح بالأيام نقطعها******كل يوم مضى يُدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مُجتهدًا*****إنما الربح والخسران في العمل
إنــــا لـنـفــرح بــالأيــام iiنقـطـعـهـا **** كل يـوم مضـى يُدنـي مـن iiالأجـل
فاعمل لنفسك قبل الموت مُجتهدً*****ا إنما الربـح والخسـران فـي iiالعمـل
كل يوم يمضي إنما هو انسلاخ جزء من عمر الإنسان، ورحم الله الحسن البصري الذي يقول: يا ابن آدم، إنما أنت أيام مجموعة، كلما ذهب يوم ذهب بعضك، حتى إذا انتهت أيامك انتهيت كُلَّك!
وهكذا تمضي الأيام والليالي، ونحن مسافرون إلى الله، وما هذه الأيام إلا مراحل على الطريق..
وما هذه الأيام إلا مراحل******يحث بها داعٍ إلى الموت قاصدُ
وأعجب من ذا لو تأملتَ أنها******منازل تُطوى والمسافر قاعدُ
1
2 ومـا هــذه الأيــام إلا مـراحـل****** يحث بها داعٍ إلى الموت قاصدُ
وأعجب من ذا لـو تأملـتَ أنهـا ****** منازل تُطوى والمسافر iiقاعـدُ[/color]