[size=18][color=green]لـو أن أرضــى حـُـــرة!
للشاعر ابن حمديس
في الربع الأخير من القرن الخامس الهجري سقطت صقلية موطن الشاعر العربي ابن حمديس ، رغم استماتة أهلها واستبسالهم في الدفاع عنها ، ولم يكن أبن حمديس مشاركا في هذا الجهاد الذي استشهد خلاله والده وعدد من أهله فيه، لأنه كان حينئذٍ في اشبيلية يلهو ويلعب ويتمتع بما لذ وطاب من زينة الحياة الدنيا التي وفرها له ولي نعمته المعتمد بن عباد ملك اشبيلية وقرطبه. ولكن السعادة لا تدوم وبقاء الحال من المحال فما لبثت الدائرة أن دارت على ابن عباد نفسه على أيدي المرابطين الذين عبروا إلى الأندلس بقيادة يوسف بن تاشفين وانتصروا على النصارى في موقعة الزلاقة ، وانتهت بذلك اسطورة ابن عباد رجل الدولة والشاعر الأديب واقتيد أسيرا إلى أغمات في المغرب حيث ظل سجينا بها إلى أن وأفاه الأجل. وبنكبة ابن عباد أقفر قصره، وتيتم الشعراء والأدباء الذين كان يضج بهم بلاطه أيام مجده وزهوه ، وتجهمت لهم الأجواء، وتفرقوا في البلاد ، ومنهم ابن حمديس الذي رحل إلى المغرب وظل يهيم فيها ، ويتنقل في مدنها لمدة أربعين عاما ، وظل خلالها يعاني من تأنيب الضمير ويتجرع أقداحا وأقداح من المرارة والحزن والأسى ندما على مافات، وتمزق قلبه الذكريات الأليمة، حول وطنه ومهد طفولته وصباه ،الذي احتله النورمان وطردوا أهله منه ، وحول والده وأفراد أسرته الذين ماتوا بحسرتهم، وهو بعيد عنهم ، وحول حياة الغربة الذي صار يعيشها مكتويا بلهيبها صباح مساء. فوق ما هو فيه من سوء حال ومن انشغال بال . بيد أن ذلك لم يحل بينه وبين الشعر وإنشاء القصيد ومنها هذه القصيدة الرائعة التي يشكو فيها الزمان وتقباته، والتي جاءت حافلة بالحكم ومتضمنة عصارة خبرته بالحياة والناس، ومجسدة لمرارة التجربة القاسية التي مر بها خلال مراحل حياته:
تـدرعـتُ صبـري جُنّـة للنـوائب**فإن لم تسالم يا زمان فحاربِ
عجـمت حصـاة لا تليـن لعـاجم**ورضت شمـوس لا تـذل لراكبِ
كأنــك لـم تقنـع لنفسي بغـربةٍ**إذا لـم أنقـب في بـلاد المغاربِ
بلادٌ جـرى فـوق البـلادة ماؤها**فأصبح منه ناهـلا كل شاربِ
فطمـت بهـا عن كـل كأس ولذةٍ**وأنفقت كنز العمر في غير واجـبِ
يبيت رئاس العضب في ثني ساعدي**مُعاوضـةًً عن جيـد غيـداء كاعبِ
أتحسبني أنسى ومـازلت ذاكرا**خيـانة دهـري أو خيانة صاحبي
تغذى بأحلامي صغيرا ولم تكن**ضرائبـهُ إلا خلاف ضـرائبـي
وياربَّ نبتٍ تعتـرية مــرارةٌ**وقد كان يسقى عذب ماء السحائبِ
علمتُ بتجـريبي أمـورا جهلتها**وقد تُجهـلُ الأشياء قبـل التجاربِ
بصادق عـزمٍ في الأماني يحلني**علـى أمـلٍ من همـة النفس كاذب
ولا سكـنٌ إلا مناجـاة فكـرة**كأني بهـا مستحضر كل غـائب
ولما رأيت الناس يُرهـب شرهـم**تجنبتهـم وأختـرت وحـدة راهـب
أحتى خيـال كنت أحظى بـزورهِ**له في الكرى عن مضجعي صدّعاتب
فهل حال من شكلي عليه فلم يـزرْ**قضافة جسمي وأبيضـاضُ ذوائبي
ولو أن أرضـي حـرة لأتيتهـا**بعـزمٍ يعـد السير ضربـة لازبِ
ولكـن أرضي كيف لي بفكـاكهـا**من الأسر في أيدي العلوج الغواصبِ
أحين تفانى أهلهـا طـوع فتنــةٍ**يـضـرّم فيهـا نـاره كل حاطبِ
ولم يرحـم الأرحــام منهـم أقارب**تروي سيـوفـا من نجيع أقـاربِ
حٌمـاةٌ إذا أبصرتهـم في كريهـة**رضيت من الآساد عن كـل غاضبِ
إذا ضاربوا في مأزق الضرب جـردوا**صواعق مـن أيديهـمُ في سحـائبِ
أولئـك قـوم لا يخـاف انحرافهم**عن الموت إن خامت أسود الكتائب
إذا ماغزوا في الروم كان دخولهم**بطـون الخلايا في متون السلاهب
يموتون موت العز في حومة الوغى**إذا مات أهل الجبـن بين الكواعب
حشوا من عجاجات الجهاد وسائدا**تعـد لهـم في الدفن تحت المناكب
فغاروا أفول الشهب في حفر البلى**وأبقوا على الدنيـا سـواد الغياهب
ألا في ضمـان الله دار بنوطسٍ**ودرت عليهـا معصـرات الهـواضـب
أمثلها في خاطـري كل سـاعةٍ**وأمري لها قطـر الدمـوع السواكب
أحن حنين النـيب للمـوطن الذي**مغـاني غـوانيــه إليـه جـواذبـي
ومن سارعن أرضٍ ثوى قلبه بها**تمنى لــه بالجسـم أوبــة آيـبِ